اقتصاد
التغيّر المناخي والمعلومات المضلّلة: كيف تحوّلت قضيّة البيئة إلى نزاع حول الحقيقة؟
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان العلماء في شركة إكسون، (إكسون موبيل الآن، وهي شركة أمريكية متعددة الجنسيات تعمل في مجال النفط والغاز)، يجرون أبحاثاً توصلت إلى حقيقةٍ مفادها أن حرق الوقود الأحفوري على وشك تغيير مناخ الأرض بشكل كبير.
وتوقّعت هذه الأبحاث المبكرة ارتفاع درجات الحرارة على مستوى العالم، وتمكّنت من التنبؤ بدقّة بمستويات ثاني أوكسيد الكربون التي نشهدها اليوم.
مع ذلك، وبحلول أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وعندما بدأ العالم ينتبه إلى حقائق تغيّر المناخ، وقفت إكسون على مفترق طرق: إما أن تكشف عن الحقيقة التي تعرفها بناءً على النتائج التي توصّلت إليها، إما أن تسلك مساراً آخر هو مسار التعتيم، وقد اختارت الشركة بوضوح المسار الثاني.
خلال التسعينيات وأوائل الألفية، صرفت إكسون موبيل ملايين الدولارات على مراكز الأبحاث وجماعات الضغط التي قللّت من مخاطر تغيّر المناخ، مشكّكةً في العلوم التي اكتشفها باحثوها نفسهم. قررت الشركة إذاً أن تسلك طريق “صناعة الشكّ”.
وعبر زرع بذور الشك وتعزيز عدم اليقين في العلوم، تمكّنت إكسون موبيل من تأجيل التدابير السياسية العامة التي قد تهدد أرباحها.
صناعة الشكّ
بحسب تحليل أجراه “اتحاد العلماء المهتمين” في عام 2007، استخدمت إكسون موبيل العديد من الاستراتيجيات والتكتيكات نفسها التي استخدمتها شركات التبغ في خمسينيات القرن الماضي في إنكارها للعلاقة بين سرطان الرئة والتدخين.
ويُعتبر سلوك قطاع الدخان الأمريكي في حينه مثالاً نموذجياً على ما أطلق عليه في أواخر القرن الماضي، اسم “الأغنوتولوجيا” Agnotology الذي أصبح فرعاً من فروع علم اجتماع المعرفة والذي يدرس الطرق التي يتم بها خلق الشك أو الجهل حول مواضيع معينة.
ويقدم الأكاديميون مثالًا بارزاً عن هذا الفرع من العلوم، عندما اعتمدت شركات التبغ في الخمسينيات من القرن الماضي أساليب لمواجهة الدعاية المضادة للتدخين. في ذلك الوقت، ركّزت الإعلانات على زرع الشك في أذهان الجمهور حول حقيقة مضار التدخين، بهدف كسب ثقتهم وضمان استمرارهم في شراء السجائر.
“تجّار الشك” هؤلاء أصبحوا موجودين في قطاعات أخرى أيضاً اليوم، لا سيّما في الأوساط التي تشكك في حقيقة التغيّر المناخي، كما رأيناهم أيضاً في الجدالات المرتبطة بجائحة كورونا في السنوات الماضية.
فعلى الرغم من الإجماع العلمي الواسع حول أسباب التغيّر المناخي وآثاره، تستمر السرديات الزائفة التي تتراوح من الإنكار التام إلى المعلومات المضلّلة، في تشكيل العديد من التصورات العامة والسياسات حول هذه المسألة.
“انقسام هويتاتيّ”
تجدر الإشارة إلى الفرق بين المعلومات الخاطئة (misinformation) والمعلومات المضلّلة (Disinformation). الأولى هي عندما يشارك الناس معلومات خاطئة أو يقدمون بيانات بشكل انتقائي عن انبعاثات الوقود الأحفوري مثلاً أو تغيّر المناخ بطريقة لا تعطي الصورة الكاملة، ما قد يؤثر على طريقة تفكير الآخرين حول القضية. وليس بالضرورة أن يكون ذلك متعمداً، إذ أن بعض هذه المعلومات قد تكون نتيجة خطأ أو سوء فهم لموضوع معقّد.
أما المعلومات المضلّلة فهي عندما يقوم منكرو المناخ أو مجموعات أو منظمات رسمية بنشر معلومات خاطئة عمداً أو نشر الأكاذيب لخدمة أجندتهم الخاصة ضد علم المناخ والسياسات التي تهدف إلى معالجة الأمر.
وقد تم اتهام شركات الوقود الأحفوري الكبرى مثل شل وإكسون موبيل وغيرها، وكذلك “الائتلاف العالمي للمناخ”، وهي مجموعة واجهة للشركات التي لها صلات بصناعة الوقود الأحفوري والتي تم حلها في عام 2002، بالعمل على “تشويه سمعة علم المناخ” أو إخفاء استثماراتهم المستمرة في الوقود الأحفوري من خلال الضغط السياسي والإعلانات منذ أواخر السبعينات – أو ما يعرف باسم “الغسل الأخضر”. )يشير مصطلح “الغسل الأخضر” إلى الممارسة التي تقوم بها شركة أو منظمة لتعطي انطباعاً كاذباً أو مضللاً عن مسؤوليتها البيئية، عادة من خلال التسويق أو الإعلان. ويتضمن ذلك تقديم ادعاءات سطحية أو مبالغ فيها حول الاستدامة أو صداقة البيئة أو الفوائد البيئية لمنتج أو خدمة أو ممارسات تجارية، دون أن يكون لها تأثير إيجابي حقيقي وكبير على البيئة(.
ولا تؤخّر المعلومات الخاطئة والمضلّلة من اتخاذ الإجراءات الفعّالة فحسب، بل تعمّق أيضاً الانقسامات الاجتماعية وتعزّز ما بات يُعرف باسم “الحروب الثقافية” أو المعرفية، ما يجعل من الصعب بناء استجابة واسعة وموحّدة للتعامل مع هذه الأزمة.
في حديثٍ مع بي بي سي عربي، يقول الدكتور في علم الأعصاب والطبيب النفسي، ألبير مخيبر، إن “هناك الكثير من المعلومات المضللة، لأن هناك العديد من الأشخاص الذين لديهم نفوذ ولا يناسبهم أن يكون التغيّر المناخي صحيحاً. اليوم أصبح لدينا الكثير من المعلومات والبيانات والأدلة التي تثبت أن هناك تضليلاً متعمداً من قبل شركات نفطية ومن قبل شركات السيارات. هناك حملة تضليل مقصودة، وغالباً ما تضاعفت هذه الحملة من قبل أحزاب سياسية كانت لها مصالح مع هؤلاء الأشخاص. هنا دخلت السياسة والعوامل القَبَليّة، وتحوّلت المسألة إلى انقسام هوياتي مثل كل شيء آخر في الوقت الراهن”.
ما هي أبرز 5 معلومات خاطئة/ مضلّلة حول التغير المناخي؟
في ما يلي بعض من الخرافات الشائعة منذ سنوات حول التغيّر المناخي مع تفنيدها:
- تغيّر المناخ هو مجرد دورة طبيعية: في حين أن مناخ الأرض يخضع لتقلّبات طبيعية، فإن التغيرات الحالية تحدث بمعدل غير مسبوق ومدفوعة إلى حد كبير بالأنشطة البشرية. تظهر دراسة علم المناخ القديم أو “المناخات السابقة” أن التغيّرات التي حدثت في الـ150 سنة الماضية – منذ بداية الثورة الصناعية تحديداً – كانت استثنائية ولا يمكن أن تكون طبيعية. وتشير نتائج هذه الدراسة إلى أن الاحترار المتوقع في المستقبل قد يكون غير مسبوق مقارنةً بالـ5 ملايين سنة الماضية. وبحسب موقع “ذا كونفرزيشن” الأسترالي، أظهرت دراسة استخدمت 700 سجل مناخي أنه، على مدار الألفي سنة الماضية، كانت المرة الوحيدة التي تغير فيها المناخ في جميع أنحاء العالم في نفس الوقت وفي الاتجاه نفسه هي في الـ150 سنة الأخيرة، حيث ارتفعت درجات حرارة أكثر من 98 بالمئة من سطح الكوكب.
- لا يوجد إجماع علمي عالمي على تغير المناخ: أكثر من 97 بالمئة من المجتمع العلمي يؤكدون أن تغيّر المناخ هو واقع وأنه يتسارع بشكل خطير بفعل الأنشطة البشرية. الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ هي مجموعة مكوّنة من ألفي عالم من جميع أنحاء العالم مستقلّين عن الحكومات أو الشركات، ويعملون منذ أكثر من 25 عاماً على تقييم ونشر الأبحاث المتعلقة بتغيّر المناخ والحلول الممكنة للتخفيف من آثاره والتكيّف معها. وتعكس نتائج هذه الأبحاث تأثير الإنسان في ظاهرة الاحترار العالمي.
- ما يحدث مجرد تغيير في دورة شمسية مثل تلك التي حدثت في أوقات سابقة: صحيح أن هناك فترات يحدث فيها تباين في شدّة تأثير الشمس على الأرض. مع ذلك، منذ 35 عاماً نحن في دورة من الهدوء الشمسي، ورغم ذلك فقد زاد الاحترار العالمي.
- التأثيرات ستحتاج إلى وقت لكي تُلاحظ، ولن يراها حتى أولادنا: في سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأ تغيّر المناخ يكتسب أهمية علمية واجتماعية، كان يُقال إن تأثيراته ستبدأ بالظهور بعد قرون عدة. ومع ذلك، في غضون 40 سنة فقط، أصبح ارتفاع درجات الحرارة أمراً واضحاً بشكلٍ كبير: السنوات التسع الأكثر حرارة في التاريخ منذ بدء تسجيل البيانات (عام 1880) حدثت في السنوات الثلاثة عشرة الأخيرة، ومنذ عام 2014، كُسِر الرقم القياسي لدرجات الحرارة السنوي كل عام. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاحترار العالمي له تأثيرات ملحوظة بالفعل مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، وأسيد المحيطات، وزيادة احتمالية الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير، والحرائق، والفيضانات، وغيرها. كما يتسبب أيضاً في ظهور اللجوء بسبب المناخ، وتدمير النباتات والحيوانات، وفي النهاية تدمير الأنظمة الاقتصادية.
- زيادة درجة الحرارة المتوسطة ببضع درجات ليست ضارة: استناداً إلى إدراكنا للحرارة، ومع الأخذ في الاعتبار أنه في اليوم نفسه قد نواجه تغييرات مفاجئة في درجة الحرارة تصل إلى 20 درجة، قد لا يبدو أن زيادة درجات الحرارة بمقدار درجتين فقط تشكّل مشكلة كبيرة. ومع ذلك، ما يبدو كفرق بسيط بالنسبة لنا هو كارثي على الزراعة والنباتات والمحيطات، وعلى أنواع الحشرات والحيوانات التي يعتمد بقاؤها بشكل وثيق على الظروف المناخية. وفي الواقع، يعاني نسبة كبيرة من التنوع البيولوجي على كوكب الأرض من ذلك بالفعل.
هل يميل الأشخاص إلى تصديق المعلومات المضلّلة؟
بعكس ما يظن كثيرون منّا، لا يعتقد ألبير مخيبر أن الناس يميلون إلى تصديق المعلومات المضلّلة. يقول إن “الأغلبية اليوم لا تنكر التغيّر المناخي، لكن المشكلة تكمن في ما يُسمى بالفجوة بين النيّة والفعل. الكثير من الناس يقولون إن البيئة مسألة مهمة جداً، لكن بعد ذلك لا يقومون بأيّ فعل، ولا يرغبون في تغيير عاداتهم الخاصة. فعلى سبيل المثال، من يخطط للسفر إلى البرازيل في الغالب لن يغيّر قراره بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري”.
ويضيف أن “هناك أيضاً عوامل نظامية، مثل أنني لا أريد أن أتناول اللحوم، ولكن في منطقتي في باريس هناك مطعم ماكدونالدز كل خمسة أمتار، لذا من الصعب أن أغيّر ذلك، وهذا ما يُسمى بالاختيار التلقائي”.
وبعكس ما هو شائع، يؤكد مخيبر أن علم الأعصاب “لا يقدّم لنا الكثير من القصص لتبرير كوننا لا نفعل شيئاً ونتهرّب من تحمّل المسؤولية”.
ويوضح في هذا الإطار أنه “في أحيان يتم استخدام الستيراتوم (منطقة في الدماغ) لتبرير بحثنا عن المكافآت الفورية، وعن السبب وراء أننا لا نفعل شيئاً ولا نستطيع أن نفعل شيئاً. لكن كل هذا تضليل، لأن المشاكل كلّها تعود إلى النظام وهي مرتبطة بالرأسمالية والليبرالية والنزعة الاستهلاكية وغيرها”.
ويضيف “اليوم، نرى طرقاً أخرى لانتشار المعلومات المضللة. هناك مثلاً من يقولون إن التغير المناخي صحيح، لكنه ليس من صنع الإنسان، بل هو جزء من الدورات الطبيعية للأرض، وهناك من يقولون إنه صحيح، لكن التكنولوجيا ستنقذنا. والموقفان سيّئان”، برأي مخيبر.