اقتصاد
“بيننا وبين الجنون شعرة”: مغتربات لبنانيات يشهدن الحرب من بعيد
“لم أقل لأمي يوماً أنني أحبها”، تقول زينب ت. في تسجيل صوتي أرسلته لي من مدينة تولوز الفرنسية. هي هناك بعيداً عن بيت أهلها في منطقة النبطية جنوبي لبنان، والغارات الإسرائيلية تقترب منه شيئاً فشيئاً. الحدث استدعى منها أن تستذكر ما تود أن تقوله لأمها وما لم تقله بعد.
تخبرني أن بينها وبين “الجنون شعرة”. هذه هي المرة الأولى التي يترك فيها أهلها بيتهم. “لم يغادروا المنزل أبداً، رغم كل ما مرّ من حروب واجتياحات”.
يمرّ الوقت بشكل غريب بالنسبة لمن يشهد الكارثة من بعيد. تقول زينب: “أثقل وأطول لحظة في اليوم، هي تلك اللحظة القصيرة حين تفتحين عينيك عند الاستيقاظ صباحاً، وتسألين نفسك ما إذا كان القصف قد وصل إلى أهلك هذه المرة أم لا. هل باتوا تحت الأنقاض؟”.
زينب واحدة من عشرات الآلاف اللبنانيين واللبنانيات المنتشرين حول العالم، الذين استيقظوا قبل أيام على كابوس ذاقوا طعمه مراراً: خطر، قصف، تفجيرات، موت، حرب ونزوح.
كان عليهم أن يشهدوا من بعيد على تهجير أهلهم من القرى الجنوبية والبقاعية، وينتظروا عبر شاشات الهواتف خبراً عن مصيرهم: من بقي على قيد الحياة، من أصيب، ومن نزح.
وبعد الاطمئنان على من بقوا سالمين، كان عليهم متابعة رحلة نزوح الأهل، أطفالاً، شيوخاً، ونساءً حوامل، والمساعدة في البحث عن بيوت للإيجار في مناطق آمنة، أو سيارات أجرة، أو أدوية، أو مواد غذائية.
خرج كثيرون من أهل الجنوب والبقاع بثيابهم فقط، وعلِق عشرات الآلاف على الطرقات لأكثر من 16 ساعة، يوم الاثنين الماضي، دون ماء أو طعام.
انتشرت أخبار عن نساء حوامل ولَدْن وهنّ عالقات في السيارات. المشهد على الطريق، كان “أشبه بأفلام هوليوود التي تتخيّل ساعة القيامة”، تقول لي إحدى النازحات.
يوم الإثنين، 23 سبتمبر/أيلول، شهد لبنان أحد أكثر أيامه دموية منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990، حيث قُتل أكثر من 558 شخصاً، من بينهم 50 طفلاً و94 امرأة، في غارات إسرائيلية مكثفة، تقول إسرائيل إنها تستهدف بنية حزب الله التحتية.
التصعيد العسكري بين الجانبين مستمر منذ 8 أكتوبر/تشرين أول الماضي، على وقع الحرب في غزة.
ونزح حوالي 90 ألف شخص خلال الأيام الماضية،بحسب الأمم المتحدة، فيما نزح نحو 110 آلاف منذ بدء التصعيد العسكري على حدود لبنان الجنوبية. وقدّر وزير خارجية لبنان، عبد الله بو حبيب، أن نحو نصف مليون شخص نزحوا من الجنوب منذ عام وحتى الآن. كما أدت هجمات حزب الله الصاروخية إلى نزوح حوالي 70 ألف شخص من شمال إسرائيل.
“قصفوا بالقرب من قبر أبي”
في صباح اليوم التالي لقصف قريتها في جنوب لبنان، استيقظت ماريا (اسم مستعار) في لندن، لتجد أن صوتها قد اختفى بالكامل. في الليلة السابقة، بكت كثيراً وهي تشاهد تسجيلات تظهر أن القصف الإسرائيلي قريب جداً من قبر والدها.
ترسل لي تسجيلات لغارات إسرائيلية على حقول قريتها وتلالها، وتقول لي: “راحت الضيعة كلها”.
كل أقاربها تركوا منازلهم. تَعدّ لي أسماء أعمامها وعمّاتها وأفراد عائلاتهم، وتذكر إلى أي منطقة لجأوا، كأنها تعيد إحصاءهم لتطمئن أنهم بخير. “بقي عمي الصغير وحده في القرية، لم يرغب في ترك قبور جدي وجدتي وأبي وحدها. يخبرنا أن جيرانه عالقون تحت الأنقاض، ولا أحد يستطيع الوصول إليهم”.
حملت ماريا جواز سفرها، وأرادت التوجه إلى المطار لتحجز أي رحلة متوفرة إلى بيروت. خاف زوجها أن تنفّذ خطتها، فأخفى الجواز عنها. تكتب: “ربما من الجيد أنه أخذ القرار عني، فقد خفّف قليلاً من عبء ذنب الناجين الذي أحمله”.
ذنب النجاة يحاصر زينب أيضاً. ترسل لي عبر واتسآب: “استكثرت السرير على نفسي، واستكثرت الجلوس في بيتي، لأنني لم أكن قادرة على مشاركة أهلي الخوف الذي يذوقونه. ولا أستطيع أن أتصور أن ابنة أختي البالغة من العمر خمس سنوات، المختبئة في حوض استحمام منزلهم، تطمئنني وتطلب مني ألا أخاف عليها”.
“أعرف هذا التعب”
حنان، من جنوب لبنان وتعيش الآن في القاهرة، شهدت أكثر من حرب ونزحت مع عائلتها أكثر من مرة.
تقول لي: “أعرف جيداً ماذا يعني أن تكوني هاربة من بيتك بالسيارة، وعالقة على الطريق، وتسمعين صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية من حولك. أفهم ماذا يعني هذا الرعب جيداً. اختبرت هذا الشعور. أعرف هذا التعب”.
أما هنا، التي تعيش وتعمل في دبي، فتقول لي: “إن لم أمت من القهر سأموت من التدخين، سيجارة وراء سيجارة”.
أكثر ما يزعجها هو جهل بعض زملائها الكامل بـ”الوضع”. فحين عرفت زميلة لها أنها أخذت يوم عطلة، تمنت لها “أن تستمع بوقتها”، في حين كانت هنا تنتظر خبراً عن أهلها الفارين من القصف.
حنان تجد صعوبة في احتواء ما تختبره من تناقض بين حالة غليانها الداخلية، والأمان المحيط بها. تقول لي: “جسمي يتذكّر الخوف والهلع، أشعر برغبة في الهرب، كأنني في خطر. لكن محيطي آمن وهادئ. هناك دوماً هذا الفرق بين ما تشعرين به في داخلك، وما ترينه أمامك. لكن ذلك الشعور لا يفارقنا، يبقى موجوداً، جسمي يتذكره، يتذكر صوت القصف والطائرات وأيام الحرب”.
“صرنا نبكي معاً”
في ميشيغان الأمريكية، تجد يارا صعوبة في الذهاب إلى الجامعة والعمل كالمعتاد، وذهنها هناك عند أهلها في لبنان.
تكتب لي: “كل الناس الذين أحبهم يعيشون في ظروف غير طبيعية. أخلق في رأسي مليون سيناريو، وكل واحد أسوأ من الآخر، وأخاف أن يصلني خبر موت أحد المقربين”.
عدد من أهالي قريتها قتلوا في الغارات الأخيرة. ذهبت إلى محاضرتها في الجامعة وهي تبكي. تخبرني: “في نهاية المحاضرة اقتربت مني شابة وسألتني إن كنت لبنانية. قلت نعم. قالت لي أنا أيضاً. فبدأنا نبكي معاً”.
في جامعتها نظّموا وقفة تضامنية مع لبنان. “فرحتُ برؤية الأعلام، مع أني لم أكن يوماً أتأثر بالشعارات الوطنية. في الوقت نفسه، شعرت أنني استنفدت كل الأمل والطاقة. ربما ذلك شعور قاسٍ، لكنني لم أعد قادرة على مخاطبة أحد بالإنجليزية لكي أفسّر وأشرح له حقيقة معاناتنا”.
تقول يارا إنها تحسد الناس في أميركا، لأنهم ليسوا مضطرين للتعامل مع أخبار بهذه القسوة في بلادهم.
تحزنها “تسجيلات وصور الأحصنة والقطط والكلاب المتروكة وحدها في القرى المهجورة، لكنني أخجل من قول ذلك، لأن هناك من خسروا أولادهم”.
“كأنه كابوس”
مروى، في باريس، تبحث عن متطوعين بقوا في قرى الجنوب، للمساعدة في الاطمئنان على قطط أهلها. هربت القطط من صوت القصف، ولم يعثروا عليها بعد. خرج أهلها من البيت لكنهم تركوا أكياس طعام القطط مفتوحة.
تخبرني مروى أن القصف الإسرائيلي يطال محيط منزل عائلتها للمرة الأولى. تقول: “تضرّر بيتنا كثيراً. القرميد، النوافذ، ألواح الطاقة الشمسية، كل شيء تدمر”.
تحكي عن رحلة والديها العجوزين لأكثر من 11 ساعة بالسيارة، وكلاهما مريضان بالسرطان. “صعب أنني لم أكن معهما. ما زلت لا أصدق أن ما حدث حقيقة. كأنه كابوس وسأصحو منه. أخاف أن تطول الحرب كما حصل في غزة. أخاف أن نبقى نازحين لفترة طويلة”.
لينا، في ميشيغان، تقول إن “روحها في بيروت”. تخبرني: “أشعر بذنب كبير تجاه بلدي وناسي، لأنني بأمان. وفكرة التحدث عن معاناتي كمغتربة، يتعرض بلدها للتدمير ويموت فيه الناس، تجعلني أشعر بالذنب أكثر”.
تكتب لي: “لقد عشت في الملاجئ، ونزحت إلى مناطق أخرى، ورأيت القتلى خلال الحروب في لبنان، وأعلم جيداً ما يمرّ به الناس الآن. قلة النوم وانعدام التركيز ومراقبة الهاتف والقلق الذي أعيشه لا يقارن بما يمرّ به الناس في بلدي حالياً”.
تنويه: لا يورد التقرير أسماء الأشخاص كاملة ولا أسماء المناطق حفاظاً على خصوصية المشاركات.