وطني
إضاءات للمرحلة .. واقتراح موجه للجيش – محمد جربوعة
محمد جربوعة
1- القراءات الخاطئة :
أسوأ ما في السياسة ، هو القراءة أو المقاربة الخاطئة .. لأن كل ما سينبني عليها سيكون خاطئا ..
لاحظوا معي أحزابا إسلامية ووطنية ، وجدت نفسها في طاولة واحدة باسم الحراك والوطن والمعارضة الموحدة ، مع طابو ومحسن بلعباس وغيرهما ..
وبعد أيام .. كان طابو ومحسن بلعباس ، يصرحان بوضوح أنهما مع ربراب وضد محاكمته .. وهنا وقعت تلك الأحزاب الإسلامية والوطنية ، في ورطة .. هل تستمر في تحالفها مع الأرسيدي وطابو و…وتتبنى المطالبة بإطلاق سراح ربراب وحداد؟ أم تفك شراكتها معهم ، لتختار العدالة ؟
تبسيط المعركة وتسطيحها ، مشكلة كبيرة ..
والطريقة التي ينظر بها الراسخون في العسكر والأمن والسياسة ولعبة المال ، إلى الأحداث والتطورات الحالية ، ليست هي ذاتها التي ينظر بها البسطاء ..
البسطاء أطفال .. بقلوب لا تتصوّر السوء .. يخرجون إلى المسيرات ، مبتسمين ، يلتقطون الصور .. ويحلمون ..ويتصورون أنهم هم فعلا الآمرون الناهون ..
بينما ، أباطرة السياسة والمال والعسكر .. يدركون أنّ ما يحدث ، لعبة خطيرة ، مفتوحة على كل الاحتمالات ، بمكر الليل والنهار ..في الداخل والخارج ..
مكالمات ، صفقات ، تهديدات ، عروض، مخططات ، لقاءات .. كل هذا لا يراه المواطن البسيط الذي يظن أن بإمكانه أن يصنع جنته بمجرد مسيرات ..
بينما يدرك الراسخون في السياسة ، أنّ التغيير إذا لم تكن هناك نية عند قوى الفاعلة ، لحدوثه ، لن يحدث ولو سالت أنهار من الدم .. وأكلت المحرقة الملايين ..
لذلك ، فالذي يظن أن مسيرات سلمية ، يتحرك فيها مليون أو عشرة ملايين شخص ، كافية لوحدها لإحداث تغيير ، فهو واهِم .. وعلى الشعب أن يدرك أنّ شراكته مع الجيش ، قد حققت له الكثير .. ولو كانت نية الجيش منعقدة على عدم تحقيق تغيير ، فلن تستطيع الملايين فعل شيء ولو توهمت .. لأنّ إخراج اللعبة من السلمية إلى العنف ، سيحسم المعركة للطرف الأقوى .. ولن يتدخل المجتمع الدولي كما يتوهم البعض .. كما لم يتدخل في مصر وهي تعدم شبابها ..وكما لم يتدخل في سوريا والبراميل تسحق الأطفال والنساء ..
أقول هذا ، لأني قرأت تغريدات حالمة ، لشباب ، يكتبون ( نحن من يملي وعلى المؤسسة العسكرية أن تنفذ فقط) ..
كما قرأت ، حديثا لبعضهم عن إمكانية حدوث انقلاب عسكري .. وإذا اتجهت الأحداث تلك الوجهة ، فعلى الطرف الذي لا يملك السلاح السلام ..
2- ثنائية الاصطفاف ..مشروعان ..
في امتحان الراية ، تميز الصف الوطني باصطفافه مع الراية الوطنية ، بينما سقط صف آخر في الامتحان ، باصطفافه مع الراية الصفراء …وبعد امتحان الراية جاء امتحان الحل الدستوري ، فاصطف المشروع الوطني مع الحل الدستوري ، جيشا وشعبا ، بينما اصطف المشروع الفرنسي مع الفوضى والذهاب للفراغ ، وفي امتحان الجيش ، اصطف الجزائريون مع مؤسستهم العسكرية ، بينما اصطف غيرهم مع خيار الميليشيات .. وفي خيار الصبغة الجمهورية ، اصطف الجزائريون مع جمهورية بيان نوفمبر ، بينما اصطف وكلاء فرنسا مع الجمهورية الثانية ومرجعية الصومام، وفي امتحان الوحدة الوطنية ، اصطف الجزائريون مع وحدة الجزائر ، بينما اصطف وكلاء فرنسا مع شعارات الانفصال .. واليوم يأتي امتحان (القضاء) .. فيصطف الجزائريون مع العدالة وواجب فتح ملفات الفساد ، بينما يصطف وكلاء فرنسا مع المفسدين والناهبين ، بدعوى أنّ العدالة انتقائية ..
ويمكن فعلا أن تكون العدالة انتقائية ، تستهدف مفسدين من جهة معينة ، لكن لذلك سبب واحد ، وهو أنّ الاستئثار بالمال العام كان انتقائيا قبل هذا ولصالح منطقة معينة ..
لذلك ، وبناء على الامتحانات السابقة التي ذكرناها ، فإنه يمكننا اليوم بسهولة أن نميز الصفين ، لندرك أنّ الذين وقفوا مع الحل الدستوري ، والراية الوطنية والجيش والوحدة الوطنية وبيان أول نوفمبر ، سيصطفون مع القضاء ..
بينما الذين وقفوا منذ أول يوم ، مع الحل خارج الدستور ، واصطفوا مع الراية الصفراء ، وضد الجيش ، ومع الصومام والجمهورية الثانية ، سيصطفون اليوم مع المفسدين والسارقين ، ضد العدالة ..
هما صفان واضحان .. ولكل صفّ أهله .. وللتاريخ كلمته
3- من الجامع إلى الجامعة :
مشروع الدولة العميقة بدأ بالجامع .. بتحطيم قداسة الجامع … ويذكر كثيرون ، الحملة التي استهدفت المسجد والمنبر .. حيث كان يوعز للشباب في أول الحراك ، باقتحام المساجد أثناء خطب الجمعة ، والتشويش على الأئمة ، بحجة أنهم كانوا لا يتحدثون عن الحراك ..
بينما لم يكن ذلك يحدث للكنائس التي لم تكن في قداسها الأسبوعي تتحدث عن الحراك ، لكنها لم تتعرض للتشويش والعدوان ..
اليوم ، وبعد عشر جمعات ، ينتقل الصراع إلى الجامعة .. بين مشروع وطني ، يراهن على الوعي والمحافظة على الزهور ، أثناء السير ، ومشروع آخر يدعو إلى تعطيل كل دواليب الدولة وإحراق كل الزهور ..
كان المفترض أن تكون الجامعة رائدة للوعي ، غير أنّ برنامج تدمير الوعي ، وصعلكة المنظومة التعليمية ، ونشْر الفساد فيها ، لعقود ، جعل الطلابين يكتشفون (عالم السياسة) مع بداية الحراك فقط .. وهو ما جعل من السهل استيعابهم في مشاريع مشبوهة باسم ( العمل النقابي ، والمحاضرات ، والنضال الطلابي) .
هذا التأخر في الوعي ، هو الذي جعل الكثير من الطلاب ، يتجنّدون في مشروع ( تعطيل دواليب الدولة) .. لأن هناك فرقا بين المظاهرات والمسيرات للمطالبة بالحقوق ، دون المساس بسير الدراسة .. وبين التعطيل الذي هو الجزء المتبقي من منظومة العصيان المدني ..
لقد سقط العصيان المدني وتعطيل الحياة ، في كل الأسلاك ، إلا في الجامعة ، باعتبارها الطرف الأضعف في فهم ما تحت الرماد ..
القضاة والمحامون والتجار وعمال كل القطاعات ، غسلوا أيديهم من لعبة ( التعطيل) بعد أن اكتشفوا أنّ مؤسسات عملاقة ، يملكها أشخاص محسوبون على ( التصعيد) لم تتوقف عن العمل ..
فلمَ يجب على الطالب أن يضحي بعام من مساره العلمي بالإضراب ، بينما لا تضحي مؤسسات عملاقة لربراب ، أرباحها ملايين الدولارات يوميا ؟
ولمَ تراجع نادي القضاة الذي كان يهدد بعرقلة الانتخابات ، ليصدر بيانا ضد الجنرال توفيق ، بينما يبقى الطالب الضعيف الحطب الوحيد ، لمشروع العصيان المدني ؟
4- خزينة شبه فارغة :
ستون (60) مليار دولار .. هذا ما تملك الجزائر اليوم ، مما تبقى من 2000 مليار .. قارنوا 60 بـ 2000 لتعرفوا حجم الكارثة ، حين يعبث شخص مثل حداد لوحده ، بمبلغ أكثر من الـمتبقي الآن في الخزينة ..
60 مليارا ، لن تكفي لتسيير البلاد سنة ، وهو ما يعني أننا سنستيقظ بعد انتهاء الحراك ، على خزينة فارغة ، لم نستغل الحراك لإنقاذها ..
هناك وعود اليوم من مؤسسة الجيش ، ومن القضاء ، باستعادة بعض مالنا المهرب والمنهوب والمسروق .. وقد يصل الأمر مع محاسبة صارمة إلى استرجاع ، ما بين 150 مليارا إلى 400 مليار ..
اليوم ..وبدل الاصطفاف مع فكرة استرجاع هذه الأموال ، يندفع أبناء الشعب الفقير ، لركوب مشروع الدولة العميقة ، للتشكيك في المحاكمات ، والمطالبة بإطلاق سراح بارونات الفساد ، بدعوى جهوية ، والتشويش على العدالة ..
وإذا حدث ، أن فوّت الحراك فرصة استرجاع بعض المال المسروق ، فإنّ أياما شديدة قادمة ، ستعصف بنا ..
5- اقتراح للمؤسسة العسكرية :
بعيدا عن مشروع الدفع نحو الانسداد والتعطيل ، والذهاب نحو الفراغ والفوضى ، الذي تمثله أقلية ، فإن أغلبية الشعب متفقة مع مؤسسة الجيش على أن الحل الأمثل للخروج من النفق هو (الحوار) ..
هذا الحوار ، لا يمكن أن يتمّ اليوم مع ( بن صالح) ، وهو ما يجده البعض مبررا ، لإسقاطه ، لأجل تحقيق الحوار ..
وإذ يتمسك الجيش ببن صالح ، وبدوي ، باعتبارهما حلا دستوريا ، لم يصنعه الجيش ، لكنه وجده واقعا .. فإن الأمور تسير نحو الانسداد ، والتدافع في المطالب بين الشعب والجيش ..
وهنا ، يمكن اللجوء إلى إيجاد حلقة جديدة ، في إطار الدستور ، ترضي الطرفين .. وهي إيجاد (مكلف بالحوار ) ، يكون محل إجماع ..
بحيث يتم تعيين شخص ، تجمع الأطراف كلها على نزاهته ، وحياده ، ليكون مكلفا بالحوار مع الطبقة السياسية ..
وقد يكون هذا المكلف (فردا) ، كما يمكن أن يكون (هيئة جماعية) .. فيها شخص مدني ، ( أحمد طالب الإبراهيمي ) مثلا.. وشخص ، ممثل للجيش (لواء).. لتكون هناك ثقة ومصداقية ..
مع الانتباه ، إلى أن اختيار شخص ، لا يمثل القبول عند الأغلبية ، سيجهض المبادرة .. وهو ما يعني وجوب الابتعاد عن الأشخاص الذين يمثلون جهات سياسية أو فكرية أو جهوية أو ثقافية معينة ..
ومع الانتباه أيضا ، إلى أنّ الخريطة السياسية والمدنية اليوم غير خريطة أمس .. فهناك أحزاب وشخصيات سياسية ، اضمحلت في الحراك، ولن يكون لها معنى في المستقبل .. مع ظهور تكتلات مدنية وسياسية جديدة ، وجب إشراكها في الحوار .. أقول هذا ، وقد لاحظتُ أن الحوار الذي دعا إليه بن صالح مؤخرا ، ركّز على الوجوه التقليدية ، وكأنّ الأمر يخص ما قبل الحراك ، لا ما بعده ..