وطني
لعبة الإغلاق التي تزعجهم محمد جربوعة

لعبة الإغلاق التي تزعجهم
محمد جربوعة
مَن ملَكَ البوصلة سَهُلَ عليه فهم مجرى الأحداث واتجاهها ..
وإنذار قائد الأركان للجنرال توفيق ، كان رسالة مشفرة .. يعرف معناها قايد صالح ويعرف معناها الجنرال توفيق ..
لذلك ، فإن رسالة ( طابو) لم تكن ردا أملاه توفيق كما يظن البعض ..
رسالة طابو لا يقف وراءها عقل كبير ، وهي خدمة قدّمها ( صبي غبي) للقايد صالح على طبق من ذهب .. حين كشف ما كانت فرنسا تخفيه ، من كونها تستهدف الجيش لا غير …
القايد صالح أنذر ..وتوفيق فهم الإنذار ..وبعد الإنذار مباشرة ، انفتحَ الانسداد وسقطت موانع المتابعات القضائية .. لتكون البداية بأويحيى والوكال .. في حملة ستتسع .. مما يدل على أنّ توفيق قد أخذ التحذير على محمل الجدّ ، وفهمَ الإشارة ..
تحذير قايد صالح للسعيد ، رسالة مشفرة ، تشبه أن يقول شخص لشخص ، وهو يعرف أسراره وخباياه ( هل أقول ؟) .. وطبعا .. فإنّ الشخص المهدَّد ، بفتح الدال الأولى ، سيفهم الرسالة ..حتى إذا لم يفهمها غيره من الذين سمعوا ذلك التهديد .. وذهبوا يمينا وشمالا في تحليل معناه..
الجنرال توفيق ، فهمَ الرسالة واستجاب .. وترك المقاومة .. ووافق على تسليم بعض الرؤوس للعدالة ..
تزامنا مع ذلك .. هناك خريطة سياسية تتغيّر اليوم بسرعة ، بهذه الإقالات والتعيينات المتسارعة .. وهي تعيينات غير جزافية .. بل لها معايير دقيقة ومقاصد عميقة ..
بقايا الدولة العميقة بدأت تتحرك مشهرة عصا الفوضى .. والمظاهرات التي غلبت عليها رايات الماك في تيزي وزو وبجاية أمس ، تندرج في الإنذار بالفوضى ، لخلط الأوراق ، وإيجاد مبرر لاستدعاء الخارج ، بعد أن وجدت الدولة العميقة نفسها محاصرة ..
هنا يجب أن ندرك أنّ مشكلة فرنسا اليوم تكمن في كونها لا تعرف ما الذي يحدث داخل الجيش ، ولا ماهية التغييرات السريعة في كل الأسلاك والأجهزة والمؤسسات ..
فرنسا ، في التسعينيات ، كان لها جنرالات في الجيش ، تعرف منهم تفاصيل ما يحدث داخله .. أما اليوم فالتقارير تتحدث عن كون الجيش أصبح (علبة مغلقة) أمام باريس ، وهو ما يزعجها .. فرنسا لا تجد مواليا لها من قيادة الجيش ، ليعطيها خبر ما يحدث ..وهو ما يزيد من قلقها على مستقبل نفوذها في الجزائر .. وهذا هو السبب الذي يجعلها تركّز على استبدال قيادة الجيش الحالية ، وإسقاط كبار الجنرالات الحاليين ، لاستبدالهم بموالين لها .. وهي تدرك أنها لن تجد فرصة مثل الحراك تستعملها لإسقاط قيادة الجيش واستبدالها ..
ولعل أكبر ما يفوت على فرنسا مرادها اليوم ، هو هذا الوعي الذي يملكه الشعب ، وهذا الحقد الذي يحمله لفرنسا ..
اتجاه الجيش نحو روسيا زاد من حشر باريس في الزاوية ..
هنا ، وبينما الساعات تأتي بالأخبار المتسارعة للإقالات والمحاكمات .. يجب أن نتوقع أنّ هناك عملية واسعة لإغلاق اللعبة في بقية مؤسسات الدولة ،في وجه فرنسا ووكلائها .. وذلك بوضع شخصيات لها مواقف راديكالية تجاه الدولة العميقة .. ومن ذلك أنّ الأمور ستتجه في حزب جبهة التحرير الوطني إلى تسليم قيادة الحزب لشخصيات وطنية قوية .. وهناك من يتحدث اليوم عن عودة ( عمار سعيداني) .. بينما يجري تفتيت الأرندي ، وإعادة هيكلته ، وهو ما جعل (صديق شهاب) يتهم ( أويحيى) بأنه عميل تحركه جهات أجنبية ، وهو هنا يقصد فرنسا ، ولأنه يعرف قواعد اللعبة الجديدة ، فقد أراد أن يقول لمؤسسة الجيش والأمن ولمجموع الشعب أنه ليس من تيار فرنسا كما هو الحال بالنسبة لأويحيى ، وهو ما يعدّ مغازلة واضعة للحصول على رئاسة الأرندي ..
غير أن الذي لا شك فيه اليوم ، أنّ الأرندي أمام مآلين : إما التفتت والاندثار .. وإما إعادة التأثيث ، لإخراجه من يد الدولة العميقة .. وستبدو نية المؤسسات الفاعلة تجاه هذا الحزب ، خلال الأيام القليلة القادمة .. والظاهر أنّ نهايته ستكون مثل نهاية الأرسيدي بعد أن كان أقوى أحزاب الدولة العميقة في التسعينيات ، لينتهي إلا لا شيء ..
صراخ الدولة العميقة سيزداد ، للطعن في خطوات محاسبة المفسدين .. لأن المشكلة ليست في محاسبة شخص واحد ، بل من سوف يكشفهم التحقيق من عشرات أو مئات من المتورطين مع هذا الشخص .. وكل دجاجة من دجاجات النظام تخفي تحت جناحيها الكثير من الصيصان .. لهذا تدرك هذه الصيصان أن أسماءً كثيرة منها ، ستظهر في التحقيقات .. وهو ما يجعلها تنقنق نقنقة الدجاج، حسب تعبير ( سعيداني عن الويزة حنون) .. وقد بدأ موسم النقنقة ..والذي ستظهر معه ملفات كبيرة .. لأن الكثير من هؤلاء السياسيين والإعلاميين والنشطاء ، هم في الأخير مجرد ( مقاولين) في السرّ..
وهنا ننبه إلى أن الحملة قد بدأت للتشكيك في عدم قانونية هذه الاستجوابات ومنها استجواب أويحيى .. بالطعن في أهلية المادة 573 ..وهو طعن صبياني لا يقول به إلا جاهل بتفسير المواد أو باللغة العربية ..
2- القضاء ينهي السياسيين :
هناك نظرية يعرفها الفلاحون وسكان البادية ، مفادها ( اضربه على النخالة، ينسَ الشعير)..و مؤسسة الجيش اختارت فتح الملفات الاقتصادية ، لإلهاء رموز الدولة العميقة عن مشروعهم السياسي …
واليوم …وبدل الاستمرار في المشروع السياسي السري، سيهتمّ كل شخص منهم بمصيره وما ينتظره ..
وهو ما يجعل الحراك يتخفف من هؤلاء ، ليكون قائدا لنفسه ومعبّرا عن مطالبه ..وقد رأينا بداية ذلك في المسيرة الماضية ، التاسعة ، وسنراه أكثر وضوحا في الأيام القادمة ..
ولعل كثيرين لاحظوا تلاشي ظاهرة ( نادي القضاة) بعد الحملة الشعبية الواسعة التي تواجه هؤلاء القضاة بأن واجبهم في تحريك القضايا وليس في الحديث عن تعطيل الانتخابات …
3- إلى أين تتجه الأمور ؟
لنفهم إلى أين تتجه الأمور ، يجب أن نسجّل أوّلا أن الدولة العميقة لم تتعرض منذ ستين سنة ، لمثل الذي تتعرض له اليوم من الحصار والتقزيم والهدم .. وقد سقط الكثير من رموزها ، من سياسيين وعسكريين ورجال مال وإعلاميين وسياسيين ومثقفين .. كما فقد سيطرتها على الكثير من المؤسسات السياسية والمالية والأمنية ..
وفي ظل انكماش الدولة العميقة ، سيتسع نفوذ خصومها .. وسيخلفونها في كل تلك المواقع والمناصب التي خسرتها ..
وهنا يجب أن نسجل أن تاريخ هذه الدولة العميقة ، كان سيئا جدا ، وقد أعطت صورة عن مدى حقدها على الجزائر والجزائريين ، سواء في الإجرام والقتل والقمع .. أو في الاستبداد السياسي ، أو في سرقة ثروات البلاد ونهب الخزينة العامة ، لصالحها ولصالح فرنسا .. والمشكل أنها فعلت ذلك بحقد وانتقام ..وهو الأمر الذي ظهر في التصريحات الاستفزازية لمسؤولين نهبوا الملايير بينما يستخسرون في الشعب الحصول على علبة زبادي ( ياوورت) .. كما يظهر في حجم الاستهتار الذي يمارسه أبناء وبنات هؤلاء المسؤولين ، حين ينشرون صور بذخهم ليراها أبناء الشعب الذي لا يجد الكثير منهم الأكل والدواء ..
الإجهاز على الدولة العميقة متوقف على وعي الشعب ، ومدى مشاركته في إسقاطها ..
هذا السقوط الاقتصادي والقضائي للدولة العميقة ، سيسقطها سياسيا .. رغم محاولاتها اليوم استنساخ العديد من أحزابها ، وهو ما سوف ينكشف قريبا بظهور الأحزاب الجديدة ..
إن أسوأ هاجس تعيش عليه الدولة العميقة اليوم ، هو أن يستطيع الشعب معرفة وتمييز أحزابها الجديدة ، لأن تمييز هذه الأحزاب ، يعني كشف قناعها واحتراقها .. وهو ما يجعل الدولة العميقة تختفي سياسيا لمدة قد تكون سنوات أو عقودا ..
ويبقى السؤال الأكبر :
بمَ تردّ فرنسا ، في مواجهة إنهاء نفوذها ؟
وكيف ستخلط الأوراق هذه المرة ؟
وأي مشروع ستفكر فيه لإحراق هذه البلاد التي تحمل لها حقدا تاريخيا ؟
فهل سيكون يوم 5 جويلية القادم عيدا للاستقلال الثاني .. استكمالا للاستقلال الأول .. ؟ أم سيكون موعدا للتسليم الثاني لمفاتيح العاصمة لقنصل فرنسا ..؟
الظاهر أن الاحتمال الأول هو الأكثر ورودا ..وهو ما يهدم ستين سنة من الهيمنة السوداء ..
ملاحظة أخيرة :
ارجعوا إلى الصورة ، لتعرفوا ما كنت قد أشرت إليه من مدة ، من كون الدولة العميقة متغلغلة في كل شيء ، ولها هي أيضا لحاها وعمائمها وعباءاتها .. تماما كما كان لفرنسا أثناء الثورة عمائم ولحى وبرانيس من القومية (القومية الفرنسية )..