ثقافة
مدفع رمضان: قصة صُدفة تحولت إلى رمز!
الأجواء باردة والسماء غائمة. إنه رمضان 865 هجرية، 1461 ميلادية. القاهرة، مصر.
الجميع في حالة استرخاء بينما يتحلقون حول كتلة الحديد السوداء القابعة كالكابوس. المماليك السلطانية على الخيول ليسوا أفضل حالًا من أجناد الحلقة المصريين المترجلين. الجميع يشعرون بالملل في انتظار “خو شقدم”. في بطء يميل أحد جنود الحلقة ليهمس في أذن رفيقه بشفاه مشّققة من أثر الصيام…
هل تعتقد أنه سيأتي بالفعل؟ لقد أوشكت الشمس على الغروب!لا أعلم ولا أريد التفكير في هذا! هذا أول يوم في رمضان وأحلم بطبق الشلولو الذي تعده زوجتي بمرق اللحم!أخبرتك ألف مرة أن تنسى هذا الاسم! أنت الآن في القاهرة وليس الصعيد. هنا يسمونها مُلوكية!وأنا أخبرتك أن الملوكية لا تستهويني ولا علاقة لها بالشلولو! شتّان الفارق بيـ.....
كان على وشك الاحتداد بالفعل على زميله، عندما صاح رأس النوبة، وهو الأمير المشرف على المماليك، بأن السلطان خوشقدم صعد إليهم. هكذا شد الجميع قاماتهم وتوقفت الخيول عن الصهيل. ثواني قليلة وظهر السلطان خوشقدم أو الملك الظاهر أبي سعيد كما يلقبونه في مصر بحاشيته من المماليك السلطانية المقربين. الغريب أن المصريين هنا أقرب إلى مواطني الدرجة الثانية بينما المماليك السلطانية من الأتراك وغيرهم من المستقدمين من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجاق والشراكسة والروم والأكراد وبعض البلاد الأوربية هما سادة القوم حقًا.
وبطبيعة الحال، لم يكن جنود الحلقة من المصريين بسيطي الشأن يعلمون بما يدور حينها حقًا. خوشقدم يطوف حول المدفع الجديد، يتحسس المعدن الثقيل البارد ويطرق عليه ويتبادل النظر مع مماليكه من الخشداشيين، قبل أن يقول في اقتضاب بعربية فصحى سليمة: فلنرى قوته!
هكذا لم يصدق الجندي المصري سليمان أذنيه عندما أمره رأس النوبة مع اثنين آخرين بتعمير المدفع وإطلاقه! الآن؟! الشمس غربت تقريبًا وتلاشت أصوات النهار وجلبته؛ سيكون الأمر مفزعًا بينما يتحضر الجميع للصلاة فالإفطار. أي فكرة سيئة هي تلك! هؤلاء المماليك وأفكارهم التي لا تراعي قدسية تلك الأيام المباركة! فلتحل عليّ اللعنة إن لم تقم ثائرة الناس عليهم إثر هذه الفعلة الطائشة!
نحن نعلم بالطبع أنها لم تكن في الواقع فعلة طائشة أو حتى فكرة سيئة، بعدما تحولت تلك الواقعة لتقليد صار الأشهر في شهر رمضان!
رمز يولد بالصدفة!
للكثيرين، وأنا منهم، تعد جملة “مدفع الإفطار … إضرب!” بصوت جندي المدفع غير المنمق يعقبها مباشرة أذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت الساحر أشبه بتعويذة سحرية تستدعي طوفانًا من الذكريات الدافئة والعزيزة في القلوب لما كان عليه رمضان قديمًا. كما تعلمون، فأمس دومًا أفضل من اليوم والذي بدوره سيكون أفضل حتمًا من الغد. ومن المثير حقًا متابعة كيف تطور مدفع رمضان منذ عصر محمد علي باشا والي مصر (1805- 1848) حتى دخول الألفية الثالثة عبر الإذاعة المصرية التي لا تزال تحافظ على هذا التقليد الجميل.
اختلف الرواة في أصلحكاية مدفع رمضان، إلا أن هناك ثلاث قصص رئيسية هي الأكثر شهرة وقبولًا لدى الأغلبية في هذا الشأن. إحدى تلك القصص الثلاثة تتعلق بالسيناريو المتخيل الذي طالعناه في بداية المقال؛ عن “خو شقدم” والي مصر في العصر الإخشيدي عندما كان يجرب مدفعًا جديدًا أهداه له أحد الولاة، وتصادف ذلك وقت غروب الشمس في أول يوم من شهر رمضان. ومع توافد العلماء وأهالي القاهرة على قصر الوالي لتناول الإفطار، انتهزوا الفرصة ليعبروا عن شكرهم بتنبيهه لهم بإطلاق مدفع الإفطار! كانت تلك رمية من دون رام كما يقولون، وعلى ما يبدو فإن الوالي أعجب بالفكرة؛ فأصدر أوامره بإطلاق مدفع الإفطار يوميًا وقت أذان المغرب في رمضان. كما زاد على ذلك مدفعى السحور والإمساك.
هل ترون الحلقة في مؤخرة المدفع؟ أينما رأيتم هذه الحلقة فهي تعني أن هذا المدفع كان مدفعًا بحريًا في الأصل وكان يستخدم على متن سفينة حربية. فائدة تلك الحلقة هي تثبيت المدفع بحبل غليظ عند ارتداده من أثر الإطلاق.
وهناك أيضًا تلك القصة الأخرى التي وجدتها على إحدى صفحات جريدة “الأهرام” المصرية التي تعزي فيها التقليد إلى زمن متأخر قليلًا أثناء احتلال مصر من قِبل نابليون بونابرت عام 1798. حينها، ولإرضاء أهل مصر، أمر نابليون بنصب مدافع على القلعة، لتطلق منها قنابل البارود دلالة على بداية شهر رمضان، ومن ثم صار تقليدًا متبعًا، قبل أن ينطلق وقت الإفطار.
وأخيرًا، هناك القصة الأكثر شهرة التي دارت أحداثها في عهد الخديو إسماعيل؛ حيث حدث أن انطلقت قذيفة من أحد المدافع عند تنظيفها من قِبل بعض الجنود، وتصادف ذلك مع وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان، فاعتقد الناس أن هذا نظام جديد اتّبعته الحكومة للإعلان عن موعد الإفطار. كان هذا أمرًا جللًا بالتأكيد في عصر ما قبل الراديو ووسائل الترفيه المعتادة، لذا لم يمر الأمر دون ضجة؛ ولمّا علمت فاطمة ابنة الخديو إسماعيل بهذا الأمر، أعجبتها الفكرة وأصدرت مرسومًا لاستخدام المدفع عند الإفطار وعند الإمساك، وفي الأعياد الرسمية، ومن هنا أطلق البعض على مدفع رمضان المستخدم حينها “مدفع الحاجة فاطمة”!
أي القصص هي الأقرب إلى الحقيقة؟ في الواقع، قد يكونوا جميعًا! فمن الثابت تاريخيًا أن القاهرة كانت تحوي خمسة مدافع للإفطار … اثنان في القلعة، وواحد في كل من العباسية، وحلوان، ومصر الجديدة، ولكل منها اسم يرمز له! حيث نجد أن مدفع القلعة هو الرئيسي، وهو مدفع “الحاجة فاطمة” الذي يقال أنه اشترك في ثلاثة حروب هي تركيا ضد روسيا في شبه جزيرة القرم، وحرب المقاومة الفرنسية لثورة المكسيك، وكذلك محاولات غزو بلاد الحبشة قبل “تكهينه” في مصر حيث لا يزال المدفع موجودًا وتم تسجيله بموسوعة جينيس للأرقام القياسية باعتباره أقدم مدفع إفطار بمصر!
صدى يتلاشى مع الوقت
في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عهد الوالي عباس حلمي الأول عام 1853، كان هناك مدفعان للإفطار في القاهرة: الأول من القلعة، والثاني من سراي عباس باشا الأول بالعباسية ـ ضاحية من ضواحي القاهرة ـ وفي عهد الخديوي إسماعيل تم التفكير في وضع المدفع في مكان مرتفع حتى يصل صوته لأكبر مساحة من القاهرة، واستقر في جبل المقطم، حيث كان يحتفل قبيل بداية شهر رمضان بخروجه من القلعة محمولًا على عربة ذات عجلات ضخمة، ويعود يوم العيد إلى مخازن القلعة مرة أخرى.
وقد كان المدفع في البداية يستخدم الذخيرة الحية، حتى امتد العمران مع بداية عام 1859 ميلادية، وحذر الأثريون من تأثير الطلقات على المباني التاريخية، فصار يعمل بالطلقات “الفشنك”، حيث كان يتم ويتم وضع كمية من البارود، دون وضع قذائف أو كرات معدنية والاكتفاء بصوت الانفجار للتنبيه. إلا أنه ووفق كتاب “شهر رمضان في الجاهلية والإسلام” ورغم استبدال الذخيرة الحية بتلك المزيفة بلا قذائف، فإن هيئة الآثار المصرية اعترضت لأن صوت المدفع كان يتتسبب في هز جدران القلعة، والمسجد، والمتاحف الموجودة في المكان، فتم نقله من فوق القلعة إلى جبل المقطم.
عملية إطلاق المدفع كانت تتمتع بطقوس خاصة أقرب إلى التبجيل. حيث كان يعين أربعة من الجنود لإعداد البارود ولتجهيز المدفع للإطلاق، بينما يحضر موظف مسؤول عن عملية الإطلاق قبل موعد أذان المغرب بنصف ساعة للإشراف على العملية برمتها وضمان نجاح الإطلاق. كان هناك اهتمام حقيقي ممزوج بالاحترام لهذا التقليد كما ترون إلا أن فترة السبعينيات من القرن الماضي شهدت إهمالًا بالمدافع، وتم الاعتماد على تسجيل الإذاعة المصرية، إلى أن عاد مرة أخرى بناء على أوامر وزير الداخلية أحمد رشدي عام 1983 بتشغيله ثانية، ومن المكان نفسه فوق سطح القلعة، طول أيام شهر رمضان وخلال أيام عيد الفطر أيضًا. هذا قبل أن تعترض هيئة الآثار المصرية كما أشرنا، ليتم نقل المدفع مرة أخرى من القلعة إلى جبل المقطم القريب أعلى القاهرة.
حاليًا يقبع مدفعان كبيران على هضبة المقطم بينما لا يزال هناك ثالث يقبع أمام متحف الشرطة في منطقة القلعة؛ إلا أنه يتم الاعتماد في الوقت الحاضر على التسجيلات الصوتية القديمة لبثها عبر الإذاعات المختلفة المختلفة والتي لم يعد يستمع إليها أحد تقريبًا من الأساس!
من مصر إلى بقية الدول العربية والإسلامية
لم يقتصر وجود المدفع على مصر فقط، حيث انتقلت فكرته إلى بقية الدول العربية والإسلامية بتأخير متفاوت. بدأ التطبيق أولًا في أقطار الشام مثل القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر. بعدها انتقل إلى مدينة الكويت حيث جاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح في عام 1907، ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في إندونسيا سنة 1944.
في الإمارات العربية المتحدة مثلًا، بدأت القيادة العامة لشرطة دبي في تطبيق فكرة مدفع رمضان مع بداية الستينات من القرن الماضي، في محاولة منها لتنبيه الصائمين من المواطنين والمقيمين، على حدٍ سواء، بموعد الإفطار ولإضفاء طابع مميز للشهر الفضيل على خلاف غيره من الشهور. وللقيام بهذا يتم تخصيص 140 ذخيرة صوتية، بواقع 35 طلقة لكل مدفع من أربعة مدافع موزعة في مناطق مختلفة من إمارة دبي طيلة الشهر بقوة صوت تصل إلى 170 ديسيبل! صوت الطائرة النفاثة على سبيل المقارنة يقارب 120 ديسيبل فقط.
وفي مكة المكرمة يقف مدفع رمضان على قمة جبل أبو المدافع بمكة المكرمة بالقرب من المسجد الحرام معتليًا جميع الأحياء ليصل دوي صوته إلى مسافات بعيدة وأحياء متفاوتة.يتم تركيب المدفع على قمة الجبل يوم الثامن والعشرين من شهر شعبان من كل عام ويتم إطلاق 7 طلقات عند دخول الشهر الكريم، ثم أربع طلقات كل يوم… طلقة قبل أذان المغرب إيذانًا بالإفطار، وطلقة في الثانية صباحًا للتجهيز للسحور، وطلقتين قبل أذان الفجر تسمىا طلقتا الكفاف استعدادًا للإمساك.
وفي ليلة العيد عند الإعلان عن العيد يتم إطلاق سبع طلقات، وفي صباح العيد يطلق خمس طلقات ثم تطلق الطلقات البقية عقب أداء صلاة العيد ابتهاجا بيوم العيد، وبذلك يصبح عدد الطلقات التي يطلقها المدفع خلال شهر رمضان 150 طلقة!
هكذا يمكننا بسهولة أن نتبين كيف صار مدفع رمضان مرادفًا للبهجة في كثير من البلدان حول العالم … إلا ببلده الأصلي مصر التي تشهد حاليًا اختفاء ذكره بعد اختفاء أثره ضمن طقوس أخرى رائعة لم يعد البال رائقًا كما كان قديمًا للاستمتاع بتنفيذها. من المؤسف حقًا النظر إلى المدافع العجوز التي صارت خرساء، وهو شعور لن يشاركنا إياه أبناء الجيل الحديث الصاعد الذي استعاض عن المدفع بتطبيق إلكتروني ما على هاتفه المحمول أو تنبيه إلكتروني آخر عبر فيسبوك! لكن من يدري، فربما كان للمدفع عودة أخرى… فهو دائمًا ما يفعل بمكان ما في زمن ما!
القصة في بداية المقال من خيال الكاتب تمامًا، ولا تشير إلى واقعة مسجلة وإن كانت تتضمن أحداث حدثت، تحدث، أو قد تحدث!