ثقافة
بودرة التلك وسرطان المبيض
تكبدت شركة جونسون آن جونسون 197 مليون دولار كتعويضات لثلاثة نساءٍ فقط من بين 1200 أسرة رفعت دعاوى قضائية على الشركة؛ كنتيجة للتضرر من استعمال بودرة تلك جونسون، ولا تزال باقي الدعاوى في أروقة المحاكم. ما هي ملابسات هذا الموضوع؟ هذا ما نلقي عليه الضوء في هذا المقال.
كانت أسرة جاكلين فوكس قد رفعت دعوى قضائية على شركة جونسون آن جونسون عقب اكتشاف إصابة جاكلين بسرطان المبيض، إثر استخدام جاكلين لبودرة تلك الشركة لمدة 35 عامًا وبصورة يومية في المنطقة الحميمة؛ وبتحليل الورم ثبت وجود جزيئات بودرة التلك في الورم. توفيت جاكلين خريف 2015 عن سنٍ يناهز 62 عامًا، وكانت أسرتها قد اتهمت الشركة بالإهمال والفشل في تحذير العملاء من مغبة استعمال بودرة التلك في منطقة الحوض. وقد قضت هيئة محلفين ميسوري في فبراير 2016 بتغريم الشركة 72 مليون دولار أمريكي لصالح أسرة جاكلين فوكس.
جاءت الصفعة الثانية للشركة في الثالث من مايو 2016 من خلال تغريم القضاء للشركة مبلغ 55 مليون دولار أمريكي لصالح جلوريا ريستنسويد والتي أصيبت هي الأخرى بسرطان المبيض جراء استعمال بودرة التلك التي تنتجها جونسون آن جونسون. أما الصفعة الثالثة فكانت في أكتوبر 2016 حيث قضت إحدى محاكم ولاية كاليفورنيا بتغريم جونسون آن جونسون مبلغ 70 مليون دولار لصالح ديبورا جيانيتشي نتيجة للأضرار المعنوية التي لحقت بها إثر تقاعس الشركة عن تقديم تحذير مكتوب على لواصق منتج بودرة التلك التابع لها.
من جهتها صرحت كارول جودريتش المتحدثة الرسمية باسم جونسون آن جونسون أنّ الشركة تدرس الآن السبل المناسبة للرد على الحملة الموجهة على الشركة؛ لاسيما وأنّ أبحاث الشركة تؤكد براءة بودرة تلك جونسون من التورط في سرطان المبيض، وأشارت كارول إلى أنّ الشركة قدمت طعون على الأحكام القضائية المعلنة آنفًا، وواصلت قائلةً: على كل حال فإن الإجراءات الحالية تصب في مصلحة تطوير وتسويق المنتجات.
الحملة التي تتعرض لها الشركة تعيد لنا شريط ذكريات ظهور بودرة تلك جونسون للنور كأحد الحلول التي استعملتها الشركة لإرضاء العملاء بعد شكاوى عديدة من أحد منتجاتها. كانت جونسون آن جونسون قد دخلت مجال الصناعة الطبية بصناعة شرائط لاصقة طبية. في عام 1893 وبعد فترة من ذيوع الشرائط اللاصقة كانت هناك شكاوى متكررة من أنّ الشرائط تتسبب في التهاب الجلد وتهيجه، فكرت الشركة في حل يرضي العملاء؛ فخرج المدير العلمي للشركة فريد كيلمر بحلٍ ذكي قام من خلاله بإرسال عبوة من بودرة تلك أنتجتها جونسون قريبًا كنوع من الاعتذار وكسب العملاء. استعمل الجمهور البودرة ليس للتخلص من ألم اللاصقة الطبية فحسب، بل أيضًا للقضاء على التهاب منطقة الحفاضات للأطفال Diaper rash كذلك. وهذا ما أكسب جونسون آن جونسون لقب شركة الأطفال وكل يوم تكتسب الشركة عددًا كبيرًا من العملاء ممن وثقوا في بودرة جونسون. بعد ذلك توسعت استعمالات بودرة التلك لتشمل مستحضرات التجميل لامتصاص الرطوبة ومنع التكتل وتحسين ملمس المنتج التجميلي وكمادة مالئة اقتصادية التكلفة فضلًا عن استخدامها بشكل موضعي لتقليل الاحتكاك في المنطقة الحميمة.
عقب الحرب العالمية الأولى استفادت جونسون آن جونسون من الثورة في عالم الإعلانات؛ فصممت الشركة أكبر حملة إعلانات في العالم لصالح بودرة تلك Baby Powder مما أكسبها رواجًا متناميًا ومبيعات متزايدة لبودرة تلك جونسون. ظل الأمر على هذا المنوال حتى عام 1971 حيث نشرت مجلة The Lancet الطبية المتخصصة أول دراسة تشير لتورط بودرة التلك في سرطان المبيض. والفكرة جاءت على مرحلتين الأولى أنّ بودرة التلك المحتوية على مادة الاسبستوس مسرطنة لاسيما في حالة استنشاقها وتؤدي إلى سرطان الرئة، أما الثانية فإن الربط بين بودرة التلك وسرطان المبيض كان جديدًا على الأوساط الطبية في تلك الآونة. وخلال الفترة من 1971 – 2003 قامت 20 دراسة علمية متخصصة بالربط بين بودرة التلك وسرطان المبيض. الدراسات أشارت لاحتمال انتقال بودرة التلك -عند استعمالها موضعيًا في منطقة الحوض- من المهبل إلى الرحم وقناة فالوب وصولًا إلى المبيض، وقد أكد هذا الادعاء رصد الباحثين لجزيئات بودرة التلك في الأورام السرطانية بالمبيض.
في عام 1982 اكتشف العلماء أنّ النساء اللاتي استعملن بودرة التلك في فترة التبويض Ovulation period قد ارتفعت احتمالات إصابتهن بسرطان المبيض بنسبة تصل إلى 92% مقارنة بمن لم يستخدمن البودرة خلال تلك الفترة. وفي عام 2003 قامت بعض الجهات الإحصائية بدراسة دلالات الأبحاث السابقة لتصل لنتيجة مفادها أنّ النساء اللاتي استخدمن بودرة التلك قد ارتفعت احتمالات إصابتهن بسرطان المبيض بما يربو على 33% مقارنةً بالنساء اللاتي لم يستخدمن البودرة في المنطقة الحميمة. أما خلال الفترة ما بين 2003 – 2012 فقد تم الكشف عن نتائج 21 دراسة علمية في ذات النطاق، ومنذ عام 1982 قد تعالت الأصوات المناوئة لاستخدام بودرة التلك وطالب المعارضون من جونسون آن جونسون قيام الشركة بضرورة الإعلان عن المشاكل الصحية المتعلقة بالبودرة ليحذر الناس مخاطرها؛ بيد أن الشركة أعطت ظهرها للمعارضين وأغلقت آذانها دون أن يغمض لها جفن على حد تعبير المعارضين.
وفي عام 2013 رفعت ديانا بيرج -وتعمل مساعدة طبيب- دعوى قضائية على شركة جونسون آن جونسون بعد إصابتها بسرطان المبيض، وقد تمت تسوية المشكلة بين طرفي النزاع لقاء حصول ديانا على 1.3 مليون دولار. كانت ديانا قد اتهمت جونسون بالإهمال والاحتيال والتآمر لعدم تحذير النساء من مخاطر بودرة التلك. وفي إبريل 2014 رفعت منى استرادا دعوى قضائية اختصمت فيها الشركة وذلك على الرغم من أنّ منى لم تتعرض لأذى جراء استعمال بودرة التلك إلا أنها شعرت بالإنزعاج الشديد لعدم اهتمام الشركة بتحذير العملاء من احتمالات التعرض للإصابة بسرطان المبيض. وفي مايو 2014 أقامت باربارا ميهاليش دعوى قضائية ضد جونسون متهمةً الشركة بممارسة الخداع، وذلك على الرغم من أنها لم تتعرض أيضًا لأي نوعٍ من الأذى البدني نتيجة استعمال بودرة جونسون، وذكرت باربارا أنها قد تعرضت لاستعمال منتج غير آمن ولفترة زمنية ليست باليسيرة.
اليوم فإن المعهد القومي للسرطان وجمعية السرطان الأمريكية قد شَدَّدَتا على أنّ استعمال بودرة التلك في المنطقة الحميمة (منطقة الحوض) يمثل عامل خطورة للإصابة بسرطان المبيض. كذلك فإن برنامج السموم القومي NTP والمعهد القومي للصحة NIH ومركز السيطرة على الأمراض CDC ومنظمة الغذاء والدواء FDA قد أجمعوا على أنّ بودرة التلك -سواءً احتوت على الأسبستوس أم لا- تعتبر مادة مسرطنة محتملة للإنسان. في حين أن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان IARC والتابعة لمنظمة الصحة العالمية WHO تصنِّف بودرة التلك المحتوية على الأسبستوس كمادة مسرطنة للإنسان لاسيما سرطان الرئة، في حين أن بودرة التلك -وإن لم تحتوي على الأسبستوس- المستعملة في المنطقة الحميمة هي مسبّب محتمل لسرطان المبيض. دراسة واحدة فقط ربطت بين سرطان بطانة الرحم وبودرة التلك مما يتطلب إجراء المزيد من الدراسات للوثوق بنتائجها، وفي الختام فإن الحذر من استعمال بودرة التلك أصبح أمرًا لا يحتاج للتذكير.
المقالات المنشورة تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي فريق تحرير عالم الإبداع. يمنع منعًا باتًا نقل أو نسخ أي جزء من المحتوى بأي شكل كان إلا بعد الحصول على موافقة خطية من الإدارة.