دولي
#افتخر_لأنك_تعيش_في_هذا_البلد

هنا ظهر موقفان حادّان ضدّ الجزائر، أوّلهما سعودي وثانيهما إسرائيلي. السعودية أصابها الهوَس فاتهمت الجزائر بمساعدة النظام السوري ولكن خارج الخطة المذكورة، وإسرائيل فتحت ملف الجزائر وخاصة ما تعلّق منه بقوتها العسكرية.
بالنسبة للسعودية، أدى الوزير الأول الجزائري عبد المالك سلال زيارة لها لتهدئة الانزعاج السعودي كبادرة سياسية فقط، أما إسرائيل فحاولت عن طريق أطراف في المغرب معرفة القوة التي تستند إليها الجزائر وجدار الضعف الذي يمكن أن تدخل منه لإثارة البلبلة فيها وجرّها إلى مجموعة الضياع في “الربيع الدموي”، وقرّرت لحظتها المخابرات الجزائرية الأخذ بمبدأ “من مهارات السياسة هي أن يتم تحويل الأزمات إلى طاقة تجديد وإحياء .. وأن يتم تحويل كل سلاح عليك إلى سلاح معك وبيدك”. وكان ذلك كافياً لإطفاء بؤرة التوتّر التي أرادوا إشعالها بدءاً من ولاية غرداية(جنوب الجزائر).
كانت السعودية قد بدأت بإشعال الفتنة في ولاية غرداية مع بداية “الربيع الدموي”، وتكفّل بذلك أثرياء سعوديون وقناة دينية، وكانت المخابرات الجزائرية تعمل بصمت على تفكيك خيوط المؤامرة من دون أن يعلم حتى الشعب الجزائري، لكي لا يظن ضعفاؤه بمفهوم مسبق وغير صحيح أن الجزائر ضمن “الربيع الدموي” فعلاً. حزب الله أعلن بطريق غير مباشر وذكي أنه على علم بكل ما يُطبخ بين السعودية وإسرائيل وأن معادلة جديدة حاضرة انطلاقاً من حاوية “الأمونيا ” في حيفا – وقد أضيف إليها مؤخراً موقع “ديمونا” كقوة ردع ثانية – في أي حرب تُديرها إسرائيل بالاشتراك مع أطراف عربية، وهنا أذكّر بما قاله وزير الدفاع الأميركي (ليون بانيتا) “بصورة قاطعة وحادّة أنه على إسرائيل أن تبادر بالبدء في المناقشات مع الفلسطينيين، بصورة احتفالية: “اقتربوا أوّلاً من هذه الطاولة المكسورة وابدأوا في الحديث “.
لكن إسرائيل تعمّدت الصَمَم في كل ما يُقال لها حماية لنفسها، لأنها دولة لا يستقيم عودها إلا على الحروب، ظناً منها أنها الأقوى والأهم في المنطقة. ولما فشلت الخطة، ظهر”الجنرال أنور عشقي” علناً في إسرائيل وفيصل تركي في ألمانيا بجانب دبلوماسيين إسرائيليين، والمستخلَص من الظهور هذا هو محاولة التغطية على ما تم إفشاله، والقول أننا نلعب فوق الطاولة لا تحتها، وكأن القضية مجرّد اتصالات خارج النطاق العسكري.
وإذا عدنا إلى الرسالة السرّية التي أرسلها الملك فيصل إلى الرئيس الأميركي جونسون بتاريخ 27 كانون الأوّل/ ديسمبر1966 والتي تحمل رقم 342 من أرقام وثائق مجلس الوزراء السعودي، والتي يدعوه فيها إلى ضرب مصر عبد الناصر، ومما جاء فيه “من كل ما تقدّم يا فخامة الرئيس، ومما عرضناه بإيجاز يتبيّن لكم أن مصر هي العدو الأكبر لنا جميعاً، وأن هذا العدو إن تُرك يحرّض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً، فلن يأتي عام 1970 – كما قال الخبير في إدارتكم السيّد كيرميت روزفلت – وعرشنا ومصالحنا في الوجود”، فإن الأمر يبدو طبيعياً جداً لأن المؤامرات السعودية ليست وليدة ظهور حزب الله، بل مند نشأة السعودية وإلى الآن.
الجزائر إذاً، واثقة من القدرة على التحرّك وسط ضجيج الحياة، وممكن ذلك بالتأكيد، وأن لاشيء يمنعها من أن تكون في مستوى العقل والضمير العربيين. صحيح قد تجتاحنا ظروف تترك فينا بعضاً من الأسى، لكن ليست تلك الظروف هي الكل وليست هي نهاية الأمل. نحن قادرون بالعقل على تطويع الحياة لصالحنا ولمن هم من أحبائنا لكن بشرط أن نكون مخلصين لواجباتنا، التي هي أمانة الله المُلقاة على عاتقنا.
إذاً، هناك تفاعلات سياسية جديدة تحكم منطق الصراع في منطقة الشرق الأوسط ، وقد تؤدّي هذه التفاعلات إلى إدخال منطق السلام بدل منطق القوة كواقع مفروض، ذلك أن سقوط الأوراق السياسية والعسكرية التي كانت تلعب عليها أميركا وإسرائيل أدّت إلى سقوط الخلفيات السياسية لها، وقد تم ذلك بعد أن خاضت أميركا وإسرائيل حروباً فاشلة في السنوات الأخيرة، ثم جاء فشلهما في منطقة القوقاز (أوكرانيا).
وكما هو معروف، فإن إسرائيل ليست دولة بل قاعدة عسكرية أمامية لأميركا .. كل أنواع الأسلحة التي توجد لديها هي أسلحة أميركية مخزّنة هناك، وتقوم بتجربتها في المنطقة، لكن هذه القاعدة، بما فيها من سلاح، سقطت مع توازن الردع الذي أحدثه حزب الله.
توازن أدى إلى ظهور منطق جديد بسياسة للروس فيها حسابات خاصة، إذن، منطق صنعته أطراف عدّة كانت تنظر إليها أميركا نظرة غير متوازنة مما هي عليه اليوم. هذه الأطراف، هي إيران وروسيا والمقاومة، ومعها طرف رابع هو سوريا المؤيّدة بقوة لهذه الأطراف الثلاثة، هذا المنطق المغيّر لكثير من المفاهيم وحتى لميزان القوي الذي ظلّ لصالح إسرائيل، أنتج بدوره تفاعلات سياسية لم تكن أميركا تعتقد أنها ستعقّد مواقفها إلى درجة الإبطال لكل الخرائط التي نادت بإنشائها وفق تقسيمات عرقية وإثنية، قصد الاستفادة منها وعلى أمد طويل. في مقابل كل هذا، يلعب حزب الله بكل المساحات السياسية، بما في ذلك في المساحتين الإسرائيلية والأميركية، ويضع الخطط ويعدّها جاهزة للتنفيذ بصورة جد متطوّرة وقابلة لاحتواء ردّات الفعل حتى ولو كان من النوع غير العادي، ذلك أن زوال حزب الله بمنظوره السياسي والعسكري لا يتم إلا بزوال إسرائيل عسكرياً وسياسياً. إن الخارطة العسكرية لديه والمستهدفة ليست العمارات أو الثكنات العسكرية، بل أبعد من ذلك، إنها الأماكن الحساسة جداً والتي إن أصابها ستؤدّي إلى كارثة ستغيّر وجه المنطقة بكاملها، وستحوّل إسرائيل بحجمها الحالي إلى ما يشبه الشتات من جديد، وهذا هو الذي تحسب له الآن إسرائيل وتفكّر فيه النُخبة فيها، ولا حل إلا حل السلام والقبول بالعيش في إطار تصوّرات تضمن للجميع حق البقاء وليس البقاء لإسرائيل وحدها.
إن فكرة إسرائيل من “النيل إلى الفرات” انتهت، بل إن إسرائيل في الحيّز الذي أقرته الأمم المتحدة ونصّت عليه مواثيقها هو المطلوب الآن وعلى إسرائيل أن تعترف بذلك.
أما حزب الله، وما صرّح به مؤخراً أمينه العام السيّد حسن نصر الله، فإنه يبدو من الوجهة السياسية يتحكّم بزمام الأمور في المواجهة، ومعروف عنه أنه لا يتصرّف إلا وفق منظار مُعيّن يتحكّم في مساره وأن الاستراتيجية التي ينتهجها متحرّكة، أي أن حساباته غير معروفة مسبقاً إلا بنتائجها على أرض الواقع، وهي نتائج متوافقة على ما ينظّر له، ويؤمن به، وأن قاعدته العسكرية لها طابعها الخاص والمميّز، بحيث لا يعرف عنها العدو إلا الظاهر منها، وهذا الظاهر غالباً ما يكون مجرّد ديكور لحالات أشدّ تختفي وراءه. ثم إن المواجهات السابقة علّمته كيف يتخندَق، وكيف يُحقّق الانتصارات.
إن الهزيمة لا تُصيب فعلاً الذين يناضلون طبقاً لمفهوم عقدي، وأن التخلّي عن الواقع إلا للضرورة ليس من طبائعهم، والذين يحملون هذه الصورة هم أصلاً يحملون الانتصار بين أيديهم، ثم إن الخارطة التي يلعبون فوقها هي خارطتهم، وبالتالي فهم أدرى بما تحمله هذه الخارطة من تحصين، تشبه أحياناً الدروع المنصبّة ضد أهداف مبرمجة. إن التاريخ يعلّمنا بدقّة كي نصنع الهزائم إذا توافرت شروطها، وشروطها متوافرة لدى حزب الله، بالنظر إلى السياق التاريخي الذي سارت عليه المقاومة منذ ولادتها.
محمّد لواتي
رئيس تحرير يومية المُستقبل المغاربي